بَيْن الشاعر، والقصيدة، والمتلقي وشيجة مشتركة؛ تقرب ما ابتعد، وتوضح ما غمض؛ وتميز بين الأساليب المختلفة، وتكشف عن جوانب النضج الفني والتعبير السليم عن التجربة الإنسانية، وهي تتكئ في ذلك كله على نظرية عامة في القيمة؛ هذه الوشيجة هي النقد الأدبي بمعاييره المختلفة، والشاعر -وهو الناقد الأول- لا ينشئ قصيدته في فيافي مقفرة، أو بين أسوار تحجر إبلاغ تجربته الشعرية للآخرين؛ إذ القصيدة تسير في الأرجاء سير النار في الهشيم؛ فتتلقفها أذواق متباينة رفضا، أو قبولا، تمجيدا أو غضًّا؛ ولذلك كثرت المعايير النقدية في تقويم الشعر، وقضية الشعر والأخلاق قضية قديمة؛ قِدَم الشعر ذاته، وقد برزت هذه المعضلة مبكرة في تاريخ النقد العربي، بل إن التساؤل عن غاية القصيدة وُلِدَ مع ولادتها، فهل هي تحفة باذخة فحسب، وصناعة لا يطلب من الشاعر فيها أكثر من إتقان الصنعة الفنية؟، أم أن للقصيدة هدفا أسمى تسعى إلى تحقيقه؛ يرتبط بالمجتمع وخدمته وتمثيل قيمه وترسيخها؟، ومن بين المعايير النقدية التي يُقَوَّم الشعر من خلالها المعيار الأخلاقي؛ وهو معيار قائم على قيم الخير، والعدل، والفضيلة، ومراعاة القيم الاجتماعية، وهو وإن كان من أقدم المعايير النقدية التي رافقت الشعر العربي، وحاولت تأسيس فنونه وفق القيم الخلقية العربية الأصيلة، إلا أن الاهتمام به بالدرس والتتبع الدقيق والشامل قد أُغْفِل؛ ولذلك قام الباحث في البحث الذي بين أيدينا الآن باستقصاء النقد الأدبي العربي منذ بداية التأليف النقدي المنهجي في القرن الثالث الهجري، وحتى القرن السابع الهجري؛ وهي فترة حوت مظان الكتب النقدية، وأعلام النقد العربي؛ الذين وضعوا نقدا منهجيا عربيا غنيا؛ وهو استقصاء حاول الباحث فيه عرض آراء نقاد هذه الفترة، وتحليلها، ونقدها؛ وإن مال أولئك النقاد في مواطن عديدة إلى تحكيم معيار فني في نقد الشعر العربي، وجاء البحث مبسوطا من خلال أربعة فصول؛ تحمل العناوين الآتية: الشعر بين القيمة الفنية والأخلاقية؛ الجذور القديمة والدراسات الحديثة، والمقاييس الدينية وأثرها في صياغة المعيار الأخلاقي وترسيخه، والمعيار الأخلاقي في نقد الأغراض الشعرية -النظرية والتطبيق-، وأخيرا الشاعر في ضوء المعيار الأخلاقي بين النظرية والتطبيق.
No Comments.